المقاطعة بين ورقة الضغط ومأزق الفراغ السياسي

15

المقاطعة بين ورقة الضغط ومأزق الفراغ السياسي

ناجي الغزي/ كاتب وباحث سياسي

منذ عام 2003 والعراق يواجه معضلة متكرّرة عند كل دورة انتخابية، تتمثل في ثنائية المشاركة أو المقاطعة، وكأن جوهر العملية السياسية ما زال عالقاً في هذا السؤال الوجودي: هل الانخراط في الانتخابات يعني تكريس نظام محاصصة وُلد مشوهاً مع التغيير، أم أن المقاطعة تمثل مدخلاً لفرض إصلاح جذري وكسر القوالب الراسخة؟ لقد تحولت المقاطعة من فعل احتجاجي رمزي إلى أداة سياسية تسعى بعض القوى إلى توظيفها لإعادة صياغة التوازنات الداخلية وفرض حضورها كقوة لا يمكن تجاوزها.

غير أن هذه الأداة، رغم مشروعيتها القانونية والسياسية، تحمل في طياتها مفارقة خطيرة: فهي قد تشكّل وسيلة ضغط فعّالة على القوى المتنفذة، لكنها في الوقت ذاته قد تُفضي إلى فراغ سياسي يهدد استقرار الدولة إذا غابت الرؤية الواضحة والبديل الواقعي. ومن هنا تبرز المعضلة: هل تُعد المقاطعة خياراً إصلاحياً يعيد ضبط بوصلة العملية السياسية، أم مجرد خطوة تؤدي إلى إعادة إنتاج الأزمة العراقية بصيغة أكثر تعقيداً وانسداداً؟

تبقى المشاركة أو المقاطعة حق مشروع، لا نص قانوني يجرّمها. ومع ذلك، يظل النظام السياسي العراقي قائماً بالكامل على الانتخابات كمصدر وحيد للشرعية. لذلك، تتمسك القوى السياسية بالانتخابات، حتى وان كانت بنسب لا ترتقي للطموح، تظل الانتخابات الوسيلة الأساسية لإضفاء الشرعية على الدولة ومؤسساتها، وأداة لتثبيت استمرارية العمل السياسي وضمان إدارة الدولة وفق الأطر الدستورية المعتمدة، مع المحافظة على توازن القوى ومؤسسات الدولة .

*المقاطعة الصدرية للانتخابات*

اللافت في المشهد الانتخابي أن خيار المقاطعة يكاد يكون محصوراً بالبيئة الشيعية وبالتيار الصدري فقط، في حين أن معظم القوى السياسية الشيعية الأخرى، بما فيها الأحزاب الإسلامية التقليدية تتجه إلى المشاركة الكاملة، بينما ترى القوى المدنية أن التغيير لا يتحقق بالانسحاب، بل عبر خوض المعركة من داخل صناديق الاقتراع. هذا التباين يضع الشارع الشيعي أمام حالة من الارتباك والانقسام، لماذا يختار الصدر وحده المقاطعة بينما الآخرون يشاركون؟ ولماذا يُمارَس على الجمهور ضغط متباين بين الترهيب والترغيب لدفعه إلى الالتزام بالمقاطعة، في وقت تبدو فيه البدائل السياسية غائبة أو غير ناضجة؟

بهذا المعنى، فإن المقاطعة الصدرية لا يمكن قراءتها كقرار عابر أو تكتيك انتخابي محدود، بل هي خطوة استراتيجية تنطوي على رسائل ضغط في الداخل والخارج معاً. غير أنها سلاح ذو حدين: فقد تُظهر التيار الصدري كقوة لا غنى عنها في المعادلة، لكنها في المقابل قد تفتح الباب لفراغ سياسي أوسع يعمّق أزمات الدولة العراقية بدل أن يسهم في معالجتها.

إن مستقبل التجربة العراقية لن يتوقف على ثنائية المشاركة أو المقاطعة بحد ذاتها، بل على قدرة القوى السياسية على تحويل أي خيار إلى أداة إصلاح حقيقية، لا إلى مجرد وسيلة جديدة لإعادة إنتاج المحاصصة وتقاسم النفوذ.

*جدوى المقاطعة*

المقاطعة الانتخابية بحد ذاتها لا تؤدي إلى إسقاط النظام السياسي، ربما هناك من يعتقد انها ستخلق فجوة شرعية أمام الداخل والخارج. بسبب انخفاض نسبة المشاركة، وكأن النظام السياسي فاقد للشرعية الشعبية، ما يرسل رسائل ضغط قوية على الطبقة السياسية والمجتمع الدولي.
إلا أن هذه الفجوة غالباً ما تبقى رمزية أكثر منها عملية، لأن القوى السياسية الحاكمة تحتكم الى صناديق الاقتراع، وتستغل غياب المنافسة الحقيقية لتمرير نتائجها عبر قواعدها الصلبة والمنظمة. المفارقة الكبرى هنا أن المقاطعة في كثير من الأحيان تعاقب الناخب أكثر مما تعاقب السياسي، إذ تترك الساحة فارغة أمام المكونات الأكثر انضباطاً تنظيمياً – كالأكراد وبعض الكتل السنية والقوى السياسية الشيعية – لتكريس حضورها وتثبيت نفوذها، بينما يظل الهدف الأساسي من المقاطعة مجرد ارباك المشهد وتصدير شعارات وامنيات، تدعو للإصلاح أو التغيير، لكن بدون خطط بديلة، وهذا يصبح بعيد المنال.

*المقاطعة وأثرها الجغرافي*
المقاطعة الانتخابية في العراق تحمل أبعاداً مزدوجة، فهي من جهة تعكس سخط الشارع ، ومن جهة أخرى غالباً ما تُستغل من القوى السياسية المنظمة لتثبيت نفوذها، ما يجعل المقاطعة سلاحاً ذو حدين.
وتتفاوت آثار المقاطعة بحسب الجغرافيا، في المناطق المختلطة، يمكن للكتل المنظمة والتي تملك المال السياسي والاجندات الخارجية، مثل الكتل السنية والكردية التي تراهن على تغيير موازين القوى، واعادة معادلة الحكم في العراق، أن تستغل انخفاض المشاركة لتوجيه النتائج لصالحها، بينما في المحافظات المستقرة حزبياً، مثل المحافظات الكردية أو الشيعية الخالصة، تبقى المشاركة ثابتة، ما يقلل من أثر المقاطعة. أما في المناطق الحضرية ذات النزعة المدنية مثل بغداد، فإن المقاطعة تؤثر بشكل ملحوظ، لكنها في الوقت نفسه تقلل من وزن القوى المدنية المشاركة مقارنة بالقوى التقليدية.
بمعنى آخر، المقاطعة قد تعكس احتجاجاً شعبياً أو ورقة ضغط خاسرة، لانها لاتحقق الهدف المطلوب، وهو تقويض سلطة الاحزاب التقليدية، بل العكس غالباً ما تترك نتائج فعلية في يد القوى السياسية الحاكمة، فتبرز الحاجة إلى استراتيجية دقيقة تربط بين الهدف من المقاطعة ومكانها الجغرافي لضمان أن تكون أداة إصلاح لا وسيلة لتحقيق وتنفيذ اجندات خارجية تغير خارطة الحكم.