بلاء الولاية ومفهوم المسؤولية السياسية

50

رسالة عبد الله النجاشي إلى الإمام الصادق عليه السلام: بلاء الولاية ومفهوم المسؤولية السياسية.

تعد رسالة عبد الله النجاشي والي الأهواز وأحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام من الوثائق النادرة التي تكشف عن عمق الوعي السياسي والأخلاقي لدى شيعة أهل البيت عليهم السلام  فهي ليست مجرد مراسلة إدارية بين والي وإمامه بل نص أخلاقي وفكري يختزل رؤية الإسلام المحمدي للسلطة والمسؤولية….

يقول النجاشي في مستهل رسالته للإمام

(( إني بليت بولاية الأهواز فإن رأى سيدي أن يحد لي حداً أو يمثل لي مثلاً لأستدل به على ما يقربني إلى الله جل وعز وإلى رسوله))

هذه العبارات القليلة تحمل معاني عظيمة تتجاوز حدود المكان والزمان وتضعنا أمام رؤية أخلاقية نادرة في التعامل مع السلطة 

أولاً. معنى الابتلاء بالولاية

يبدأ النجاشي كلامه بلفظة عميقة الدلالة إني بليت

فالابتلاء في لغة العرب لا يعني المصيبة فحسب بل الامتحان والاختبار كما في قوله تعالى:((ونبلوكم بالشر والخير فتنة)) (سورة الانبياء ٣٥)

من هنا نفهم أن النجاشي لم ينظر إلى الولاية كتشريف أو كسب دنيوي بل رآها امتحاناً إلهياً لعقيدته وعدله وإيمانه

إنها بلاء يرفعه إن أقام العدل ويهوي به إن جار أو خان الأمانة

وهذا الفهم العميق يعبر عن مدرسة فكرية ترى الحكم تكليفاً لا تشريفاً ومسؤولية لا غنيمة

ثانياً. الولاية بين التكليف والخطر

النجاشي كان يدرك أنه أمام امتحان مزدوج

من جهة عليه أن يحقق العدالة والكفاءة في إدارة شؤون الأهواز ومن جهة أخرى عليه أن يتجنب الانزلاق في مفاسد السلطان أو مظالم الدولة

لذلك عبر عن حاله بمرارة المؤمن المسؤول لا بفرح المتسلط

إن وصفه الولاية بالبلاء يكشف أن الرجل كان يعيش قلق الأمانة بين واجب الإصلاح وخطر الانحراف وهي حالة نادرة في الولاة الذين كانت تغريهم المناصب والمكاسب في تلك العصر 

ثالثاً. طلب الهداية من الإمام

قال النجاشي:

فإن رأى سيدي أن يحد لي حداً أو يمثل لي مثلاً لأستدل به على ما يقربني إلى الله وإلى رسوله

وهنا تتجلى روح الرسالة طلب التوجيه من الإمام المعصوم لا ليرفع عنه التكليف بل ليرسم له الحدود والمثال

وقد جمع النجاشي في عبارته بين منهجين تربويين

١- الحد أي الضابط العملي والشرعي الذي يبين له ما يجوز وما لا يجوز في تصرفاته

٢-المثال أي النموذج التطبيقي الذي يحتذي به اقتداء بسيرة الأنبياء والأئمة في العدل والزهد والتقوى

فهو لا يريد نصيحة  بل منهجاً للحكم في ظل الفتنة

رابعاً. السياق السياسي للرسالة:

جاءت هذه الرسالة في زمن كانت فيه الدولة العباسية تختبر ولاء بعض الشخصيات الشيعية بإسناد المناصب إليهم

وكانت تلك المناصب سيفاً ذا حدين

إن أطاع الوالي السلطان طاعة مطلقة ظلم الناس وفسد

وإن تمرد عليه خسر منصبه وربما عرض نفسه وشيعته للبطش

في هذا الجو السياسي المتوتر كتب النجاشي رسالته ليطلب من الإمام الصادق خطاً وسطاً يجنبه الانحراف ويحفظ دينه وعدله

وهذا الموقف بحد ذاته يمثل وعياً سياسياً مبكراً في مدرسة أهل البيت قوامه تحكيم الضمير الشرعي على رغبات السلطة

خامساً. الإمامة كمصدر للهداية العملية: 

رسالة النجاشي لا تكشف فقط عن تقواه الشخصية بل تبرز مفهوم الإمامة في بعدها العملي

فالإمام في وعي النجاشي ليس مجرد فقيه أو واعظ بل الميزان الذي تعرف به حدود الله في السياسة والاجتماع

لذلك يخاطب الإمام بللسان المؤمن الموقن

دلني يا سيدي على ما يقربني إلى الله ورسوله

وكأنه يقول لا أستبين الطريق إلا بإشارتك

هذا الإيمان العميق بالإمام كمرشد أخلاقي في الحكم يجسد عمق المدرسة الجعفرية في إدارة شؤون الدنيا والدين معاً

من خلال هذه الرسالة القصيرة نرى كيف تحول المنصب في نظر النجاشي من مكسب دنيوي إلى أمانة ثقيلة

لقد جعل من الولاية ميداناً للامتحان لا للترف ومن الطاعة وسيلة للعدل لا للتسلط

إن قوله إني بليت يجسد جوهر الفكر الشيعي في النظر إلى الحكم فهو بلاء واختبار ومسؤولية لا امتيازاً ولا غنيمة

وما أجمل أن نختم بما يمكن أن يكون خلاصة فكر النجاشي

 السلطة بلا تقوى مفسدة والتقوى بلا بصيرة عجز

أما الولاية على نهج الإمام فهي جهاد في سبيل الله لإقامة العدل بين الناس.

وفي هذا العصر  لا بد لسياسيي الشيعة أن يتخذوا من سيرة النجاشي عبرة واعتصاماً ومنهجه في التعامل مع السلطة  وإلا فإن اتباع مسلك السلاطين والمارقين سيؤدي بهم إلى الزوال وفقدان مكانتهم ولن يكون لهم رصيد بين آل محمد عليهم السلام.