انتفاضة اذار 1991 صرخة شعب ضد الظلم والجور والهزيمة

0 376
قرأت في موقع صفحات عراقية الموقر مايلي:
كشفت مصادر عراقية عن وجود رئيس اركان الجيش العراقي السابق في (عهد الرئيس المخلوع صدام حسين) الفريق الركن نزار الخزرجي في أبو ظبي، للعمل مع شخصيات عراقية للعمل ضد الوضع الجديد في بلاده!!
&&&& وأعكف حقيقة منذ فترة طويلة على نقل كتاب من الورق إلى الكومبيوتر، يوميات ووثائق عن الإنتفاضة في مدينتنا الناصرية، كنت كتبته وجمعته أول ماوصلنا الى مخيم رفحاء عام 1991 من أفواه رجال الإنتفاضة من أبناء المدينة ورجال العشائر ورجال الدين، وفيه فصلان عن مقاومة الخزرجي ضد أبناء الإنتفاضة حتى وقوعه في الأسر، ودفاعه عن نظام الطغيان واستهزائه برجال الإنتفاضة، وكان الخزرجي عين أيامذاك حاكما عرفيا لمدينتنا، وسوف أقوم بنشر الفصول تباعا قريبا إنشاء الله
&
شهادة رقم (10)
جرح وأسر الفريق الركن نزار الخزرجي في مدينة الناصرية
الطبيب المعالج الدكتور رحيم
&&&
&بعد معركة ضارية بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة استمرت من الساعة الحادية عشرة صباحا حتى الساعة الثامنة مساء من يوم السبت الثاني من آذار 1991، وبعد ملحمة بطولية وقتال مشرف قدم مجاهدو الناصرية صورا خارقة من التضحية وبذل النفس (كانوا يرون في الخزرجي صورة لسيده) سقط المجرم الخزرجي وزمرة من مرافقيه وحمايته(مرافقوه من ذوي الرتب العالية)، سقط مصابا إصابة خطيرة حيث تلقى عدة ضربات في بطنه ومثانته، وفور وصوله إلى المستشفى الرئيسي في المدينة، والمسمى بإسم سيده تهللت الوجوه وطغى فرح عظيم وسط أهازيج العاملين والكادر الطبي والمواطنين.
&كان الخزرجي بكامل وعيه وقد أدهشه فرح الناس، وراح يتلمس منهم العفو والمغفرة، راجيا عدم الإعتداء عليه أو الإساءة له لأنه رجل (مسلم!) كما كان يقول!، بعد ذلك بدقائق أغمي عليه نتيجة لنزف شديد ، فأدخل مباشرة إلى صالة العمليات وأجريت له عملية جراحية كبرى، استغرقت عدة ساعات، وقام بها كل من الدكتور ربيع عبد الهادي آل فندي والدكتور عصام الدين عبد الصاحب.
&مضى يومان بعد إجراء العملية لم يفق خلالهما الخزرجي إلا دقائق قليلة، تفوه خلالها بكلمات غامضة غير واضحة، وحاول الإنتحار مرات عديدة وهو على سرير المرض، وذلك برفض تناول العلاج وسحب الإنبوبة الخاصة بجهاز الإعطاء (المغذي).
& كنت مشرفا على علاجه، وأتناوب مع السيد عبد الله بنيان أبو موسى حمايته واستجوابه في نفس الوقت، وحاولت إفهام الخزرجي خطأ محاولاته الإنتحار، وكان في نوبات إفاقته المتقطعة يسألني عما وقع له، ولماذا تعرض ومن معه للحصار في دائرة الطرق الجنوبية؟، وماسبب الهجوم على مقر إقامته!؟.
&وحاولت قدر ماستطعت إبعاده، بطريقة ما عن استعادة الحدث وماجرى له، بل رحت بدلا من ذلك أشرح له معنى الإنتفاضة وقيمتها في حياة الشعب العراقي، ورفض الشعب للنظام الدكتاتوري القمعي الذي هو شخصيا أحد أركانه، ثم أوضحت له خلال جلسات عديدة أهمية بقائه حيا، كونه عسكريا كبيرا، وقد تحتاج الإنتفاضة إليه لوضع الخطط للقضاء النهائي على الدكتاتور في بغداد!
&لكنه كان يلح في طلب إبنه الملازم أحمد، وكان الأخير أسر معه واقتيد إلى سجن الإنتفاضة في مدرسة قرطبة الإبتدائية للبنين، حيث تم استجوابه مع بقية مرافقي والده ولم يصب أحمد بأذى.
& بعد ثلاثة أيام نقلنا الخزرجي من الطابق الثاني إلى الطابق الخامس في نفس المستشفى مع مجموعة من الضباط الجرحى، وكان تضايق كثيرا من وجود هؤلاء معه، نظرا لغلاظة طبعه وخشونته ورغبته بعدم الإختلاط بمن هم دونه في الرتبة العسكرية، حيث مازال تعاليه وعنجهيته وغروره واضحا، ولم يفارقه رغم وقوعه في الأسر وإصابته، وربما زاد في ذلك تعاملنا اللين والطيب معه!
& طالبني ذات ليلة بقتله لإعتقاده بأنه لم يعد نافعا ولأنه مجرم بحق الشعب العراقي ويستحق القتل، لكني أقنعته وذكرته بالمزيد من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، حول أهمية الحياة لبني الإنسان وكراهية الإنتحار بالنسبة للمسلم.
& في ليلة أخرى نقلناه إلى الطابق السادس بموجب الأوامر الصادرة إلينا، حيث ظل بمعزل عن أقرانه الجرحى وبعيدا عن ملاحقة المواطنين له، وكذلك لغرض الراحة النقاهة، بعدما لاحظنا تحسنا ملحوظا طرأ على صحته شيئا فشيئا، لكن الحراسة ظلت مشددة على غرفته وزيد حرسان آخران فصاروا أربعة.
& في الليلة الثالثة أطلق مجهول صلية كلاشنكوف على غرفته فاستدعيت السيد عبد الله بنيان الموسوي الذي ساعد كثيرا في حماية الخزرجي طوال ايام وجوده معنا، وكان له دور كبير في إدارة المستشفى، وهكذا كتمنا على وجود الخزرجي حوالي ست ساعات خلال نقله إلى الطابق الرابع، في مكان خاص ومنزو وسط ذهوله مماجرى، مادفعه لأن يظهر لنا عواطف مغايرة، وتخلى ولو لبضع ساعات عن صلفه وغروره وعنجهيته كعسكري وراح يتملقنا ويتودد إلينا، ربما كان يظن بأن بقائه حيا ماهي إلاقضية وقت ليس إلا.
& خلال الأيام الثلاثة الأولى تعرض الخزرجي للإهانات والكلمات الجارحة، من قبل المواطنين الذين كنا بالكاد نتحايل عليهم وندفعهم بالأيادي عن باب غرفته، وكان هؤلاء المواطنون يريدون قتله وهو على فراش المرض، لتسببه في سقوط عدد من الشهداء والجرحى من أبناء المدينة، خلال عملية أسره ومقاومته هو ومن معه من الضباط والمراتب.
&خلال مراحل استجوابه على سرير المرض قال الخزرجي، في الفترات التي كان يصحو فيه، ا أن مهمة وجوده في الناصرية هي لحماية أعراض العراقيين، وإن إشاعة وجوده لإعدام الف شخص يوميا بأوامر الطاغية صدام مجرد كذبة، لكنه عاد مرة ثانية ليقول بصدق تلك الأوامر بعد أيام!!
& في اليوم الرابع زاره السيد رشيد ابن السيد يوشع ابو رسول احد قواد الإنتفاضة في الناصرية، مهنئا بسلامته& واستعادة صحته، وبعد خروج السيد سألني الخزرجي: هل هذا هو قائد الثورة في الناصرية؟ فأجبته بالنفي بسبب تماديه واستهزائه به،& وكنت شخصيا أعرف شجاعة أبو رسول وشهامته، مقابل دناءة الخزرجي ودمويته بإعتباره أحد صناع الموت في العراق.
& سألني في أحد الأيام: قل لي هل أُعفى من الموت إذا نجحت الإنتفاضة!!؟
وهل أعود سالما إلى أهلي ببغداد!!؟
قلت له: ذلك ماتقرره قيادة الإنتفاضة ولاأظن أن أحدا سيأمر بقتلك، إذا ماأبديت استعدادا لمساعدة الإنتفاضة!؟
&ومما أذكره في اليوم الذي أشيع فيه مقتل الطاغية، أن أفكار الخزرجي تغيرت كلها تقريبا، وكأن ضميره صحا بعد غفلة سنين طويلة، فأظهر مافي جعبته من الحقد والكراهية على الطاغية سيده، وكيف كان الأخير مستهزئا بكل القيم، ومضى ينتقد النظام ورئيسه وجهاز المخابرات بشدة، وأكد لي مرات عديدة أنه مع الإنتفاضة ومع الشعب ضد الطغيان، وكنا نتحاور ساعات طويلة حول قيام صدام بإعدام السيد الصدر الشهيد وأخته الفاضلة وأنكر الخزرجي معرفته بأسميهما فتعجبت!!، وبلا سبب واضح أجهش ذات مرة بالبكاء ولاأدري أن كان صادقا أم لا، وفي اليوم التالي سألني عن شخصي ومن أكون وماطبيعة علاقتي بالإنتفاضة!؟
&قلت له بأن إرهاصات الثورة موجودة في وجدان وضمير الشعب العراقي، وفي صباح يوم الجمعة غادرت المستشفى كعادتي لجلب الأدوية وقناني الأوكسجين رغم القصف المبرح للمدينة واحتلال أجزاء منها وسقوط شهداء وجرحى في صفوف أهالي الناصرية.
&وحدث بعد ذلك ماحدث: تهبط طائرة عمودية على المستشفى الذي احتلته قوات الحرس، وتدور رحى& معركة ضارية في الطابقين الخامس والسادس بين الحرس والمجاهدين، ويصعد الخزرجي إلى الطائرة ويؤخذ إلى بغداد، وهو ماأكده لي طبيبان زميلان التقيتهما في مكان ما في الناصرية بعد عدة ايام.
&
&شهادة رقم (11)
حراسة الفريق الركن الخزرجي واستجوابه
شهادة السيد عبد الله بنيان الموسوي أبو موسى
ماإن توقفت سيارة [البيك آب] ذات القمرتين بباب مستشفى (صدام) الداخلي حتى هرعنا إليها، يغمرنا الفرح وتناثرت فوق هاماتنا زغاريد النسوة اللواتي كن موجودات في المكان، وانطلقت هوسات الرجال وتكبيراتهم، وانتابتنا موجة حماس عجيب حتى كأننا قبضنا على الطاغية نفسه!!، لما كان للخزرجي من رتبة عالية في الجيش العراقي تشبه وقريبة من رتبة الطاغية ونياشينه واوسمته، وكان الخزرجي أيامذاك كما هو معروف رئيسا لأركان الجيش& لسنوات عديدة، وذلك قبلما يعزله الطاغية لينتدبه مرة أخرى للعمل كسفاح لمدينة الناصرية وقمع الإنتفاضة فيها بعد انكسار يد السلطة في الجنوب، فقد قيل وقتها بأن الخزرجي تلقى أوامر من سيده، وكذلك بإعدام الجنود الرافضين الإلتحاق بوحداتهم، وكذلك لتأديب أبناء الناصرية الخارجين دائما على السلطة الطاغية.
&وحملنا الخزرجي وصدح صوت امرأة فرحانة وهزج أحد المجاهدين((جبنه الطاغية مجتف))، ثم انبرى غير واحد من المواطنين الذين على جانبي الباب الرئيسي وحاولوا قتل الجريح الركن الخزرجي،& فحجبناه عنهم فاكتفوا بإهانته والبصق على وجهه.
&يوم ليس ككل الأيام: صيد ثمين أخرجه الله تعالى من جحره ليتلقفه الصيادون المهرة، كان الخزرجي ينزف ثم بعد دقائق أغمي عليه وهو بين أيدينا، وفي الغرفة خلعنا بسطاله أحمر اللون وجواربه وملابسه، وتقدم منه أحد المجاهدين معنا ونتش رتبته العسكرية للذكرى!!، وبعد قليل تلقفه الأطباء وادخلوه إلى صالة العمليات الكبرى.
&تجمع المجاهدون بباب صالة العمليات مندهشين فرحين بالصيد الثمين حتى أنهم أخذوا يهنئون بعضهم البعض، سأل أحدهم : ترى ماذا يمكن أن يقول رئيسه في العاصمة!؟ أجاب آخر :سوف يشعر بأسى يعصر قلبه حتما، وربما ينتقم بعد مصارحته بالأمر من أحد مساعديه!! رد مجاهد ثالث: اخواني لهذا ولاذاك فلايهم الطاغية أحد في هذا البلد كما يعرف الجميع، فمادام هو يعتلي كرسي الحكم إذن ليذهب الجميع إلى الجحيم!
& في صباح اليوم التالي الأحد- كان الخزرجي يغط في نوم عميق بفعل تأثير المخدر العام، وكنا أسكناه غرفة خاصة في الطابق الثاني حسب أوامر القيادة الميدانية، وفي نفس الصباح أيضا أطلقنا إشاعة تداولها جميع من كانوا في المستشفى، وهم مئات من الرجال والنساء وصدقوها!، من انه تم نقل الخزرجي إلى قضاء سوق الشيوخ!!، ولم نسمح حتى للأطباء بالإطلال عليه عدا أخصائيين إثنين فقط، خشية عليه، ثم ألحقناه في اليوم التالي بجناح الضباط الأسرى الذين كانوا تحت إمرته، وجاؤوا معه من العاصمة، وقاوموا هجوم المجاهدين وجرح البعض منهم خلال العملية البطولية، وجاءت الإشاعة في محاولة منا لمناورة المواطنين، والإحتيال عليهم، منعا من الإعتداء عليه وقتله، وكان الكثيرون يسألون عن رقم غرفته الراقد فيها وفي أي طابق تقع!؟
& كان الخزرجي يغط في غيبوبة عميقة ساعات طويلة ليصحو دقائق قليلة خلال الأيام الثلاثة الأولى، وماأن يفيق حتى يسارع إلى طلب رؤية ولده الملازم الأول أحمد (كان أحد مرافقيه وأودعناه& في سجن الإنتفاضة لغرض التحقيق)، وكنا نطمئن الخزرجي أنا والدكتور رحيم بالتناوب، بأن ولده مايزال على قيد الحياة ويتمتع بصحة جيدة ولاخوف عليه وهو موجود مع ثلة من الضباط معززين مكرمين.
& اذكر أن اثنين من مرافقيه الجرحى، رتبة رائد من قضاء الحمزة ورتبة نقيب من الرمادي لم يكن جرحاهما بليغين، بحيث أنهما تشافيا في غضون ثلاثة ايام، هذان ألحا علينا ورجونا كثيرا بأن نطلق سراحهما، فقد ادعى الرائد بأنه شيعي ولي به صلة المذهب، لكني أخبرته وكذلك النقيب بأن الجميع متساوون حسب توصيات القيادة الميدانية.
& لكن هل كان الضابطان يريدان الذهاب إلى أهلهما فعلا!؟
&ام أنهما ألحّا في طلب الرحيل ليسارعا إلى سيدهما في بغداد، وإخباره بما حل بالخزرجي!!؟
&من جتنبه لاحظ الخزرجي وهو على سرير المرض، أننا إضافة إسماعه كلمات طيبات، عاملناه معامله& إنسانية حسنة بل تكاد تكون مثالية تفيض عن حاجته، باعتباره حاكما عرفيا للناصرية، وأن موقفنا بالحق أكثر سموا ورفعه من تفكيره الذي ينصب على أننا لسنا أكثر من حراس أطلقت أيديهم، تحت ظرف الإنتفاضة للنيل منه وتعذيبه وإهانته!!
&وكنا مسلحين بمبادىء الدين الإنساني السمحة وهو دين إنساني وعراقيتنا كذلك، لذلك عرضنا عليه الوجه الجديد المؤمن بالله تعالى والمشرق بقيم الإنتفاضة المباركة، وكانت قلوبنا تقطر تسامحا ورحمة، ماكنا مثلا نستجوبه بطريقة بوليسية (كما كان يتوقع!)، بل إننا عرفنا الطريق الأقصر الذي أوصلنا إلى مانريد، ومما أذكره عن الفريق الخزرجي هو أننا كنا نتألم جدا لإصابته في مثانته وبطنه- نطالع وجهه خلال ساعات غيبوبته ونتأمل فيه فيتمكن منا الألم، ويعضنا الحزن لأن عسكريا مثله، كبيرا في الرتبة وقديما في الجيش العراقي، لم يعد يفرق بين الحق والباطل، العدل والظلم، فانحاز بعماء لامثيل له إلى الطاغية!
& لقد كانت مهمتي في المستشفى حقيقة مهمة متشعبة، فذات يوم اكتشفنا شبكة استخباراتية تغلغلت بين صفوفنا، خلقت وحاولت أن تخلق بإستمرار صعوبات وعثرات لتعطيل عملنا في خدمة المرضى، وكسر شوكتنا، لكن الله سبحانه وتعالى مكننا منهم فشخصناهم وحصَّنا أنفسنا منهم ومن حبائلهم، وتدارست مع إخوتي من المجاهدين العاملين في المستشفى قضية إبعاد هؤلاء عن المستشفى نهائيا، أو على الأقل عزلهم عن إدارة الاعمال الرئيسية أو إناطة مهمات بسيطة بهم!، لقد انشغلنا أيامذاك بتوفير الماء وقناني الاوكسجين خاصة، أيام صعبة للغاية، فاالمدينة مظلمة كأن ليلها ليل أشباح وموتى أو هو بعينه ماالفرق!؟، البيوت أشبه ماتكون قبورا، شبكات المياه والمجاري وشبكات التصريف الصحي عاطلة ومدمرة كلها تقريبا، فوضى رجال مسلحين لاعلاقة لهم بالإنتفاضة، رعب ومأساة وذعر وجوع ترك الناس حيارى في أمرهم.
&في تلك اللحظات الرهيبة من أيام الإنتفاضة التي أمست جزءا عزيزا من تأريخنا الشخصي، دس أحدهم ويدعى ستار زعيم الشبكة، قصاصة ورق موقعة بإسم سيد محمد حسين السيد راضي، فيها أمر صريح بإنهاء التحقيق مع الخزرجي، وإطلاق سراحه فورا!؟، وبدا أن شيئا ما غامضا يحدث ولعب الفأر في عبي كما يقولون، كيف نطلق سراح أحد صناع الموت في بلادنا بورقة من السيد!!؟
&كانت لحظات حنق وغضب لاأعرف كيف سيطرت فيها على رباطة جأشي، قلت له بإزدراء: لكن ماشأنك أنت والخزرجي!؟قال بزهو: أوامر السيد!!، فرددت بعصبية: نحن لانتلقى أوامر من السيد!، ثم أخذت القصاصة ومزقتها أمام وجهه!
&دأب ستار على حضور إجتماعاتنا اليومية مع الكادر الطبي، ينصت بعمق لكل كلمة نقولها أو لانقولها، أحيانا يصمت، مرات يتكلم بطريقة من يريد فرض رأيا ما بالقوة، متجاوزا حدود الأدب، وحدث أن طردته ذات صباح، راجيا من أحد المجاهدين أن يصحبه إلى مقر القيادة الميدانية في مبنى المحافظة، لكن ستار عاد في اليوم التالي متصنعا دور البرىء، قائلا لي: هل تشك بي فعلا!؟
&اتذكر الآن مدير المستشفى الدكتر راجح الراوي، كان هذا يرتعد خوفا في ملجأ المستشفى الذي اتخذ منه مقرا دائما، كانت علاقته ممتازة بالمحافظ الذي تم قتله على أيدي المجاهدين في اليوم الاول للإنتفاضة المجيدة، وسط المدينة قرب تمثال السيد الحبوبي، على أية حال أخرجنا الراوي من مخبأه في الليلة الثالثة بعد اندلاع الإنتفاضة، أي في الليلة الثالثة على تحسن صحة الفريق الخزرجي وامتداد ساعات صحوه، أي قبل ساعات قليلة من وقوع حادثة تهشيم زجاج غرفته بصليات بندقية كلاشنكوف متقطعة من جهة مجهولة، لم نكن موجودين في تلك الأثناء ولكننا خمنا أنها محاولة من تلك الشبكة لتخليص الخزرجي من أسره، ثم نقله إلى سيده في بغداد والحصول على جائزة سنية أو نوط شجاعة، أو بالعكس: محاولة من مواطن مهتاج لقتل الخزرجي بعدما كان سببا في استشهاد شقيق له، خلال ساعات حصار دائرة الطرق الجنوبية حيث كان الخزرجي يقاوم المنتفضين هناك!
&لم يصب الخزرجي بأذى جراء الرشقات التي هشمت زجاج الغرفة وثقَّبت حائطها.
اثر هذه الواقعة نقلنا الخزرجي إلى غرفة آخرى تقع في الطابق السادس!
&اليوم الرابع من اندلاع الإنتفاضة ووجود الخزرجي في المستشفى مر بسلام، كل شيء هادىء ماعدا قضية ستار فقد كنت لاأرتاح لهواجس الجاسوسية التي كان يطالعنا بها، وراح يدس أنفه في اجتماعاتنا مستفهما عن كل صغيرة وكبيرة، في ذلك اليوم طفح بي الكيل بعدما نفد صبري، فأرسلته إلى مقر القيادة الميدانية لإستجلاء سره ومعرفة شخصيته لأني بصراحة لاأعرفه من قبل، لكنه بعد بضعة ساعات عاد وشخص في الممر غير بعيد عني، وشهر مسدسه وأدناه من رأسه بحركة مسرحية بهلوانية، أوضحتْ كذبه وادعاءه، وقال: كيف تتهموني باالعمل لصالح المخابرات!!!؟؟، ومالبث أن استل من جيب قميصه هوية طالب في إعدادية صناعة الناصرية [ أخبرني المجاهد الذي اصطحبه إلى القيادة، أن ستار بكى بين أيديهم، وتملقهم فإستطاع أن يستدر عطفهم ولذلك أمروا بإعادته إلينا!]،
في ذلك اتخذت القرار التالي: إبعاد ستار نهائيا عن مجلس إدارة المستشفى وجعله حارسا على خزان البنزين!!
***
طفحت العافية على وجه الخزرجي في اليوم الخامس من الإنتفاضة وسقوطه أسيرا في يدينا، تمكن من حركة جسمه الضخم على السرير حركة موضعية، حتى لتحسبه إذا رأيته أنه ليس مريضا بل نزيل فندق، ولاأدري أي نوع من الصلف والغرور كان يتمتع بهما، صبَّحتُ عليه ودعوتُ الله أن يمن عليه بالشفاء أكثر واكثر، ونطق : البارحة الدنية بردتْ!! وقمتُ من فوري وعريتُ نافذة الغرفة من إحدى الستائر ودثرته جيدا، ثم قلت له ملاطفا: كيف حالك اليوم ماشاء الله ماشاء الله الصحة تنفّط من خدودك!!
& بعد هنيهة من الصمت بيننا قلت له: أية صدفة أن نلتقي!؟، ورد بلباقة : الله يحفظكم ويعزكم في الحقيقة أنا مكلف بصد الأمريكان عن الناصرية!!، قلت: لكن عاصفة الصحراء أنجزت مهماتها وانتهت، وأعلن وقف إطلاق النار وأصبح نافذا وقانونيا وأنتم أنفسكم تقيدتم به فإنسحب الجيش أليس كذلك!، قال: لكنهم خرقوا اتفاق وقف إطلاق النار!، قلت: كيف؟ قال: طيران واطىء على الحدود وفي أجوائنا الدولية، قلت: طيب وكيف برأيك ستصد القوات الأمريكية!!؟ من أين لكم باالعسكر!؟ قال: التقيت بالمحافظ (لم أخبره بمقتله!) ووجهاء المدينة، وسوف أقوم بجمع فصائل وسرايا من العشائر والجيش الشعبي، وأردف ضاحكا: [ إحنه إجينه نصد القوات الأمريكية عن أعراض أهال الناصرية، أشو أهل الناصرية جازونه خوش مجازات!!!؟؟]
قلت: لكننا سمعنا غير الذي تقول !؟
قال : ماذا!؟
&قلت: سمعنا بأنكم عينتم حاكما عسكريا للناصريةن وأن أول مشروع تنفذونه هو القيام بإعدام 1000 شخص يوميا، إضافة إلى إعدام الأسرى العائدين من إيران ماستطعتم إلى ذلك سبيلا!!؟
& وأغمض عينيه بعد سماعه هذا الكلام وتظاهر بالنوم!، فتركته متشاغلا عنه مع أحد المجاهدين الحراس الواقفين بالباب.
***
تميز اليوم السادس بالقلق على مصير الإنتفاضة!
قوات بدر لم تصل!
لم يتغير شيء في بغداد وبقي الطاغية على الكرسي!
فيما إذاعة بغداد تبث الأغاني العاطفية والأناشيد التي تمجد الطاغية، كان العراق يغلي شماله ووسطه وجنوبه، فمايزال يعيش إنتفاضة عارمة!
&كنا بشوق لايوصف لدخول قوات بدر وإسنادنا، وقيادتنا أكدت أن تلك القوات ستصل حتما، وكانت قوات الحرس الجمهوري في تلك الأيام تزحف نحو الوسط والجنوب، تسحق خلالها& المدن والناس، وتدمر وتقتل وتلاحق وتفتش البيوت بحثا عن المجاهدين والقوى الوطنية والأبرياء في المدن المحصورة بين قضائي الشطرة والحي، وهاهي أعداد من الجرحى وصلوا قبل قليل من ناحية الغراف (نحو 20 كم شمال شرقي الناصرية)!
& لقد استبد بنا حقا الخوف على مصير انتفاضتنا، وشعرنا جميعا- في لحظة مواجهة مع النفس- بأننا ضائعون ومحبطون وسط مهزلة، هي أقرب ماتكون إلى مؤامرة دولية منها إلى أي شيء آخر.
&كان زمام الأمور يفلت من بين أيدينا!
&حاورت السيد أبو رسول أحد قواد الإنتفاضة حول إدارة المستشفى- الماء والكهرباء وقلة قناني الأوكسجين والنظافة، وننتقل بين طوابق المستشفى السبعة نطمئن الأطباء والمرضى والإداريين بأن الإنتفاضة لن تنتكس مادمنا صادقين مع أنفسنا على الأقل!
هل كنا مثاليين ولانرى قوات الحرس تتقدم نحو الناصرية!؟
&في صباح اليوم السادس زار أبو رسول غرفة الخزرجي بالطابق السادس، بادره بالسلام الحيميمي كأنه صديق قديم يعوده في بيته، استقبله الخزرجي ببرود واضحووخالي من اللياقة، لكن أبو رسول ونظرا لما يمتاز به من شهامة ولطف المعشر ورجولة، هنأ الخزرجي على سلامته بمنتهى الطيبة قائلا: إنته إذا ماتعرف طبع أهل الجنوب تره هذوله إحنه: كرم وضيافة ومحبة وإنشاء الله تاخذ حياتك وإبنك وترجع لأهلك بس طيب شوية أكثر، وأسأل الله تعالى يباشرك برحمته ويمن عليك بالصحة والعافية.
وأردف أبو رسول ممازحا بلهجة أهل الأهوار: انشاء الله نسوي عزيمه على خاطرك عَيِّلْ خير يارجل!
***
لايشبه اليوم السابع بقية الأيام!!
&فقد أخذت طوابق المستشفى السبعة تختض تحت قصف الهاونات والمروحيات، وأسرع إلينا أحد المجاهدين وأخبرنا بأن سرايا من الحرس تقدمت نحو مدخل الناصرية من جهة قضاء الشطرة، وربما وصلت زمر منها وتغلغلت بين الأحياء السكنية لضواحي المدينة في حي البكر وسومر وأريدو!!
& كان القرار الأول الذي اتخذناه هو إشارة سريعة بتصفية الخزرجي، على أن تتزامن مع دخول الحرس، أو حدوث إنزال بالمروحيات على المستشفى، وفي تلك الأثناء وصلت وجبة من الجرحى الذين سقطوا في مدينة البكر والحي الصناعي ومنطقة الشُّوفَه، مواطنون ينزفون دما وحدث ارتباك على وقع القصف وأصيب الجميع بالهلع، العاملون يتراكضون في ممرات المستشفى والمنتفضون المسلحون أيضا، ركض متواصل وقصف متواصل والسلالم والممرات تفيض دما، وتناثرت هنا وهناك قطع من القطن والشاش والضمادات التالفة، ثم بعد قليل حوصر المستشفى!
&هكذا حوصر فجأة بطريقة مفاجئة غير متوقعة، هرعت إلى أبو رسول وقلت له بشيء من الإرتباك: ماالعمل!!؟ في تلك اللحظة أطلقتْ مروحية حلقت على علو منخفض بمستوى الطابق الخامس صاروخا دمر غرفة( الكونترول)، تعطل كل شيء حتى أصيب المستشفى بالشلل التام: الإضاءة أصبحت شحيحة في كل الطوابق رغم ضوء النهار، وتوقفت أجهزة المختبر عن العمل ورأيت المرضى رجالا ونساء والمجروحين كذلك ممن كانت جروحهم خفيفة، رأيتهم يسندون بعضهم البعض في الممرات ويحملون قناني المغذي إلى مافوق الرأس، وهرب المرضى والجرحى من المستشفى جماعات وفرادى، ورأيت من نافذة الطابق السادس بعض المرضى يتسلقون سياج المستشفى هاربين وسط سقوط القنابل والصواريخ في باحة المستشفى وحديقته.
&استقل ابو رسول سيارته متوجها إلى مبنى المحافظة، عاد بعد نصف ساعة منفعلا، أخبرني بأن مجموعة من المجاهدين في طريقها إلى المستشفى لتعزيز قواتنا وصد الهجوم، لكن القصف لم يتوقف بل اشتد أكثر،& وحدث تطور جديد: قصفت غرف التكييف وبين الأجهزة الكهربائية ودمرتها، ولم تسلم قاعة قاعة المواد الغذائية بل وحتى ثلاجة الموتى، حيث يرقد المحافظ المقتول وعدد من البعثيين الكبار والصغار، ولاحظنا في تلك الأثناء إحدى الطائرات المروحية تحوم حول المستشفى، كأنها تبحث عن شيء ما، أو ربما لإرسال& الإحداثيات لطواقم المدفعية والهاونات المتجحفلة ليس بعيدا عن المدينة، لقصف المدينة والمستشفى بالهاونات والقذائف المدفعية.
& من الطابق السادس أيضا رايت جنودا من الحرس الجمهوري يحاصرو ن المستشفى، مختبئين وراء سياجه من ثلاث جهات، بينما اقتحمت مجموعات منهم الطوابق السفلى فاحتلوا العيادة الخارجية، يسندهم جنود آخرون من وراء السياج، وبعد قليل هبطت المروحية على سطح المستشفى، ومن بعيد على الشارع العام كانت أرتال الحرس عربات وشاحنات وراجلين، يتقدمون وينتشرون بين الأحياء السكنية حواليّ المستشفى، متخذين مواضع مرتجلة أثناء التقدم هي إما على شرفات البيوت والمدارس والدوائر الحكومية، أو غلى الأرض، كان كل شيء يجري بسرعة وأدركت حراجة الموقف، أغلقت النافذة على مشهد الجنود الزاحفين& وعدت مسرعا إلى أبو رسول أنصحه بضرورة مغادرة المستشفى فورا، فقد قضي الأمر فعلا، ولم يعد مجديا مواجهة الحرس، لكن الرجل أبى ذلك وأصر على مقاتلة الحرس حتى النهاية، ثم صعدنا إلى دار الأطباء وتبادلنا إطلاق النار مع الجنود بلافائدة، وبدا أننا نقاتل عبثا، وهذا ماأوضحته إلى المجاهدين معنا: فالمستشفى محاصر من ثلاث جهات ولافائدة، ومن يرغب أن يقوده الحرس إلى بغداد أسيرا فليبقَ!!، ومن لايرغب بذلك فليأت معي، وهبطت سلالم المستشفى مسرعا مع عدد من المجاهدين، راكضا بإتجاه زاوية من السياج وعبرت إلى الجهة الثانية بصعوبة.
اجتزت محلة الوهابية بصعوبة بالغة، ومن هناك التحقت إلى مجموعتي خلف جسر الزيتون، ولاأدري بما حل بالفريق الخزرجي بعد ذلك، لكني سمعت بأن الطائرة المروحية التي هبطت على الطابق العلوي أخذته إلى بغداد.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.